روائع مختارة | بنك الاستشارات | استشارات ثقافية وفكرية | هل تحل العلمانية.. مشكلة التعددية؟

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
روائع مختارة
الصفحة الرئيسية > روائع مختارة > بنك الاستشارات > استشارات ثقافية وفكرية > هل تحل العلمانية.. مشكلة التعددية؟


  هل تحل العلمانية.. مشكلة التعددية؟
     عدد مرات المشاهدة: 2933        عدد مرات الإرسال: 0

هل تحل العلمانية مشكلة التعدديةعلى أي أساس يضع المواطنون في بلد ما دستورهم ويصدرون قوانينهم إذا كانوا منقسمين إلى أديان مختلفة؟
 
يثير هذا السؤال عدة مسائل:
 
المسألة الأولى:

أن دعاة العلمانية ولا سيما في بلادنا العربية في هذه الأيام, يقولون:

إن الحل الأمثل هو الحل الذي لجأت إليه أوربا وأمريكا وسائر الدول التي قلدتها, وهو أن تكون الدولة علمانية لا تلتزم بدين لكنها لا تمنع أحدًا من ممارسة دينه في حياته الخاصة.

بهذا يكون المجال العام, مجال التشريع والتنفيذ والقضاء, مجالًا مفتوحًا لكل أفراد المجتمع يشاركون فيه باعتبارهم مواطنين لا باعتبارهم منتمين إلى هذا الدين أو ذاك, ويكونون بهذا متساوين في حقوقهم السياسية.
 
نقول: نعم، إن هذا قد يحدث إذا تنازل كل المنتمين إلى الأديان أو معظمهم عن أديانهم, أو على الأقل عن جانب المجال العام منها, ورضوا بأن يحصروها في الجانب الخاص كما فعل الغربيون. وقد صار كثير من المسلمين المتأثرين تأثرًا شديدًا بالفكر الغربي يعدون هذا أمرًا طبيعيًّا.

بل يعدونه أمرًا لازمًا للدولة الحديثة. رأيت ذات مرة في التلفاز أحد هؤلاء وهو يدافع دفاعًا مستميتًا عن الدولة العلمانية, ثم تبين في المقابلة معه أنه من حرصه على أداء الحج بطريقة كاملة لم يكن يكتفي بالسؤال عن أركانه وواجباته بل كان يحرص حتى على مستحباته!
 
فهذا إذن رجل يرى أنه يمكن أن ينكر جزءًا من الإسلام ويدعو إلى هذا الإنكار ويظل مع ذلك مسلمًا، ربما لأنه لا يعلم أن من شرط الإيمان بالإسلام أن يؤمن الإنسان به كله ثم يجتهد في أن يطبق منه ما استطاع, وأن من أنكر بعض الدين كمن أنكره كله.

قال تعالى: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنْصَرُونَ} [البقرة:85، 86].
 
هذا إذا تبنت الأغلبية المسلمة الموقف العلماني. ولكن ماذا يحدث إذا ظلّ عدد كبير منهم مستمسكًا بدينه كله؟ هل يمكن أن يقال عن أمثال هؤلاء: إن لهم حقوقًا سياسية متساوية مع غيرهم من العلمانيين الذين يشرعون لهم قوانين يخالف بعضها أوامر أديانهم؟ كلا.

قد يقال: لماذا لا يقبلون رأي الأغلبية ويعيشون تحت قوانين يعلمون أنها مخالفة لدينهم؟ نقول: هَبْ أنهم فعلوا ذلك, فالسؤال ما يزال قائمًا. هل يقال عن مثلهم: إن لهم حقوقًا سياسية متساوية مع العلمانيين الذين يتولون التشريع له؟ كلا. إذن فالعلمانية لا تحل مشكلة التعددية.
 
الثانية:

أن الخلافات بين الناس ليست محصورة في الخلافات الدينية, بل هنالك خلافات أخرى كثيرة وعميقة كالخلافات الاقتصادية السياسية بين دعاة الرأسمالية ودعاة الاشتراكية.

فهل يشعر الاشتراكي في الغرب أنه مساوٍ سياسيًّا للرأسمالي الذي يُشرع للمجتمع تشريعات اقتصادية مبنية على الرأسمالية؟ وقُلْ مثل ذلك عن بعض الاختلافات الاجتماعية والفلسفية والخُلقية التي لا علاقة لها بالدين.
 
كيف تحل هذه المشكلة إذن؟

هذا يقودنا إلى المسألة الثالثة:

وهي أن جون رولز الأمريكي الذي كان يعدُّ أكبر فلاسفة السياسة والأخلاق المعاصرين, زعم في كتابه الشهير الليبرالية السياسية political liberalism أنه توصل إلى إجابة عن هذا السؤال لأنه توصل.

كما يقول إلى مبدأ يمكن أن تتفق عليه كل الأديان والفلسفات والمبادئ الخلقية المتناقضة تناقضات عميقة؛ لأن كلًا منها سيجد له مكانًا في دينه أو فلسفته أو معتقده الخلقي بشرط أن يكون ذلك الدين أو تلك الفلسفة أو ذلك المبدأ الخلقي (معقولًا).

لكن تبين أن مربط الفرس كما يقولون: إنما هو في كلمة (معقول) هذه. تساءل ناقدوه عن معيار المعقولية هذه عند رولز، فوجدوه يرجع إلى الموافقة على مبادئ فلسفته الليبرالية السياسية. فقالوا له: إنك لم تفعل شيئًا.
 
قلت إنك توصلت إلى مبدأ يوافق عليه كل أولئك المختلفين ويجعلونه معيارًا, ويكونون بهذا متساوين سياسيًّا في الدولة الليبرالية الديمقراطية, ثم جعلت شرط موافقتهم عليه أن يكونوا موافقين على فلسفتك السياسية الليبرالية.

ولعل من الطريف الذي يبين صدق هذا النقد للقارئ السوداني أن من بين التصورات الدينية التي رآها رولز معقولة كلامًا لمحمود محمد طه نقله إليه أحد الأساتذة, كلامًا يفسر فيه محمود الإسلام تفسيرًا جديدًا لا يكاد يختلف في شيء عن الديمقراطية الليبرالية!
 
لقد تعجبت كيف ظن هذا الفيلسوف الكبير أنه سيجد حلًا لمشكلة يستحيل عقلًا أن تحل؟ أعني أنه يستحيل عقلًا أن توجد دولة لها دستور وقوانين ترضى عنها كل فئات المجتمع المختلفة؛ لأنها تجد لها مسوغًا في دينها أو فلسفتها أو مبدئها الخلقي.
 
الرابعة:

أن الحل الممكن عمليًّا كما هو الواقع في البلاد الغربية مثلًا هو أولًا: أن تبنى الحياة في المجال العام على أحد المبادئ التي لا يشترط أن توافق عليها كل فئات المجتمع المختلفة ذلك الاختلاف الذي ذكره رولز, لكنها ترضى بها لكي تعيش مع غيرها في سلام في وطن واحد.

لكن هذا يعني بالضرورة أن لا يكون المواطنون متساوين في الحقوق السياسية. وثانيًا أن تكون لهؤلاء المواطنين جميعًا حقوق إنسانية متساوية باعتبارهم مواطنين وبغض النظر عن الحكم الذي يخضعون له.
 
الخامسة:

يتبين من هذا أن مثل العلمانية في هذا كمثل الحكم الإسلامي في كونها ليست محايدة بين الأديان أو المعتقدات الأخرى كما يصورها لنا القائمون بالدعاية لها؛ لأنها يمكن أن تشرع تشريعات تجيز بعض ما تمنعه بعض تلك الأديان والمذاهب أو تمنع ما تجيزه.

وهي ليست بمحايدة بالنسبة للإسلام بالذات بل محادَّة له؛ لأنها يمكن أن تحل ما حرم الله وتحرم ما أحل. وفي التجربة الأمريكية أدلة كثيرة على أن الدولة العلمانية قد تصدر حتى في مجال الممارسات الخاصة قوانين مخالفة لتعاليم بعض الأديان.
 
ومن الأمثلة الطريفة التي يذكرونها أن تعاليم طائفة المورمون, وهي طائفة تنتمي إلى المسيحية, تبيح تعدد الزوجات تعددًا لا حد له فيما يبدو. لكن المحكمة العليا منعتهم من ذلك وألزمتهم بعدم التزوج بأكثر من واحدة.

كما أن القوانين في البلاد العلمانية الأوربية تبيح كثيرًا من الممارسات الجنسية التي لا يوافق عليها كثير من اليهود والنصارى المستمسكين بدينهم.
 
السادسة:

بعض الناس حتى من المنتمين إلى بعض الأديان ما زالوا يفضلون أن يكون الحكم في بلادهم علمانيًّا لا إسلاميًّا؛ لأن بعضهم ما يزال مخدوعًا يظن أن العلمانية محايدة, وأن دولتها دولة مدنية يجد فيها كل المواطنين حقوقًا سياسية متساوية.
 
إن هؤلاء يغفلون عن كون العلمانية هي أيضًا دين إذا أخذنا الدين بمعناه العربي الواسع, أو هي على الأقل مذهب من مذاهب الحياة؛ لأنها تتضمن مبادئ وتشريعات وأوامر ونواهٍ. فهي إذن ليست ضد الإسلام وحده، وإنما هي ضد كل دين له تشريعات ومبادئ مختلفة عن تشريعاتها ومبادئها.
 
السابعة:

من الدعايات التي يلجأ إليها بعض دعاة العلمانية في تنفير غير المسلمين من الحكم الإسلامي زعمهم بأنه ما دامت القوانين التي تصدرها هيئة تشريعية إسلامية هي بالضرورة قوانين دينية, فإن الدولة التي تصدرها تكون قد فرضت عليهم دينًا لا يدينون به.

لست أدري لماذا لا يقولون الشيء نفسه عن القوانين التي تصدرها الهيئات التشريعية العلمانية؟! لماذا لا يقولون إن كل قانون تصدره هيئة تشريعية علمانية هو بالضرورة علماني مخالف لدينهم؟!
 
لماذا لا ينظرون إلى القوانين الإسلامية نظرتهم إلى القوانين العلمانية فيلتزموا بها؛ لأنها قوانين أصدرتها دولتهم ولا ينظرون إلى عقائد من أصدروها ولا إلى دوافعهم، كما أنهم لا يفعلون ذلك بالنسبة إلى القوانين التي تصدرها الدولة العلمانية؟ إن الدولة العلمانية بإمكانها نظريًّا أن تصدر قوانين متوافقة توافقًا كاملًا مع الإسلام.

كأن تمنع الخمر أو الربا, فهل سيقول أمثال هؤلاء إنها لم تعد دولة علمانية بل صارت إسلامية تفرض عليهم دينًا لا يدينون به؟!
 
الثامنة:

أليس من التناقض أن يكون الإنسان من المنادين بالديمقراطية ثم يعترض اعتراضًا مبدئيًّا على إسلامية دولته مهما كان عدد المطالبين بذلك من مواطنيها؟!

كيف توفق بين الديمقراطية التي تعطي المواطنين الحق في اختيار نوع الحكم الذي يريدون وتكون مع ذلك مناديًا بمنع طائفة منهم من هذا الحق؟!

إن منع فئة من المواطنين من المناداة بأن تكون دولته إسلامية لا يتأتى إلا باللجوء إلى قوة قمعيَّة تحول بينهم وبين ذلك، كما كان الحال في بعض البلاد العربية.
 
تاسعًا:

لقد قال كثير من المنادين بالحكم الإسلامي ونقول معهم: إن الحكم الإسلامي ليس حكمًا دينيًّا بالمعنى الغربي للكلمة.

أي أنه ليس حكمًا ثيوقراطيًّا يتولى الأمر فيه أناس يزعمون أنهم يتلقون أوامرهم بوحي مباشر من الله تعالى، كما كان بوش يزعم أن الله تعالى أخبره بأن يفعل كذا ويفعل كذا وهو قائم على رأس دولة تعتبر علمانية.
 
إن الحكم الإسلامي يختلف عن الحكم الثيوقراطي في ثلاثة أمور مهمة. أوَّلها أنه قائم في النهاية على دستور مكتوب مفتوح لكل الناس هو نصوص الكتاب والسُّنَّة. وثانيهما أنه لا يجبر أحدًا على الدخول فيه كما كانت الطوائف الدينية النصرانية في الغرب تفعل حين تئول السلطة إلى واحدة منها.

كان النصارى يخيرون اليهود في الأندلس بين الدخول في النصرانية أو الموت أو مغادرة البلاد. وكانت الطائفة التي تئول إليها السلطة تجبر الطوائف الأخرى على اعتناق معتقداتها. وهذا هو الذي تسبب فيما أسموه في التاريخ الغربي بالحروب الدينية التي كانت -كما يرى بعضهم- هي السبب في نبذ الناس للحكم الديني واللجوء إلى الحكم العلماني.
 
وثالثهم إن الحكم الإسلامي يعطي غير المسلمين حقوقًا مثل ما يعطيهم إياها الحكم العلماني أو أكثر.

قد يقول بعضهم: كيف تقول هذا والدولة العلمانية تساوي بين المواطنين من الناحية النظرية على الأقل في حقهم في أن يتولوا رئاسة الدولة مثلًا, بينما الإسلام يشترط في من يتولى هذا المنصب أن يكون مسلمًا؟ أقول: والعلمانية تشترط فيه أن يكون علمانيًّا!

نعم إنه لا يهمها من الناحية النظرية أن يكون مسلمًا أو نصرانيًّا أو يهوديًّا أو بوذيًّا ما دام انتسابه إلى دينه انتسابًا ترضى عنه العلمانية؛ أي أن يكون تدينه تدينًا محصورًا في الجانب الشخصي. أما في المجال العام فهو ملزم بالدستور والقوانين العلمانية.
 
وبما أن الإسلام لا يفصل هذا الفصل الحاسم بين جانب الدين الخاص وجانبه العام, بل يعدُّ رأس الدولة إمامًا للمسلمين في دينهم كما أنه إمام لهم ولغيرهم في دنياهم كان من الطبيعي أن يشترط في رأس الدولة أن يكون مسلمًا.
 
الكاتب: د. جعفر شيخ إدريس

المصدر: مجلة البيان